على اعتاب الفقد
على اعتاب الفقد
نبيل محمد العامري
يُقبِلُ اللّيلُ عليّ كعادتهِ، مُترعًا بحسرةٍ لا يُستطاعُ تجرّعها، وحنينٍ لا يُطاقُ احتمالُهُ، وهذا القمرُ الذي يتوسّطُ السّماءَ، يُحاولُ أن يُشرقَ في نفسِي بِلا جدوى!
يَعبُرُنِي اللّيلُ فيسحَق في طريقهِ غضَّ آمالي وزهرَ أحلامي، يقفُ بكُلّ ثِقلهِ طويلًا على قلبي المُتعب.
والغدُ شبحٌ يتراءَى لي من خلفِ أستارِ الغيبِ، يُخبِّئُ في يدِهِ ما لا أدريهِ.
أبي..
تعيسةٌ هي فرحةٌ ينتظرها الشّقاءُ في آخرِ الطريق، ووحيدٌ هو قلبٌ يفتحُ ذراعيهِ للحياةِ، ولا تُعانقُهُ سوى الرّيح!
أكتبُ إليكَ ولا أعلمُ هل يبلغُ القلمُ مداه، أم ينزلق بالدّموع، فيكبُو دونَ غايتِهِ؟!
أكتبُ إليكَ وأُودِع الكلماتِ نداءاتِيَ المكسورةَ بعدكَ، حين أصرخُ موجوعًا: أبي! فيردّ الصّدى: لا أحد!
أكتب إليكَ مُعزِّيًا كلماتي المفجوعةَ بكَ مثلي، تلكَ التي تشرقُ بالدّمعَ كُلّما لاحَ في الخاطرِ طيفُكَ، أو تردّدَ في الأسماعَ صوتكَ، حتّى الكلماتُ -يا أبي- يتيمةٌ في فمي مِن بعدكَ!
أكتبُ إليكَ من هُنا، من أعمق نُقطةٍ في نفسي، حيثُ تسكنها الوحشةُ والغُربةُ والفُقدُ، وأعلمُ أن رسائلي الباردةَ لن تنعمَ بدفءِ يديكَ، وأحرفي المذعورةَ لن تغفوَ آخرَ النهارِ مُطمئنةً على كتفيكَ.
أبي لفظٌ يتيمٌ فِي قاموسِ لُغتِي، حزينٌ يحنّ لمعناكَ ويرتجف.
أبي مُفردةٌ لا تُشبهها الألفاظٌ التي عبرَتْ فمي أو تكدّسَتْ في ذاكرتِي.
أبي معنىً تسمُو إليهِ الكلماتُ، تُحاولُ عبثًا أن تكونه!
أبي نداءٌ يتردّد في نفسي أبدًا، وأظلّ أتلفّت أبحث عنكَ، عن بسمة حنانٍ تُربت على كتفي، أو نظرة أملٍ تُنبئني بغدٍ أجمل، ولكن تُصادفني الألوان التي لا لون لها، والأشكال التي لا شكل لها، والحياة التي لا معنى لها.
أبي..
بكيتكَ وبكاكَ الباكونَ معي، حتى إذا نفدت مياهُ دموعِهِم، وسكنوا للعيشِ أخيرًا، ظللّتُ أرتعدُ في اليُتمِ وحدي، لا كفًا تأخذني من حُزني، ولا قلبًا يرأف بي من بعدكَ.
فليمتدّ هذا اللّيل أكثر، لا شأن لي بنهار غد، ما غدي من دونكَ، يا أبي؟
لقد سرق الفقد بقيّة أملٍ أتقوّى به في انتظار ما سيكون في غدي.
لم أكُن لأُدركَ -يا أبي- نعيمي بُوجُودكَ، لو لم أُجرّب شقائي بفقدانكَ، ولكنها سُنّة الله في خلقه، يُجريها كما شاء.
أبي..
مصلوبٌ أنا على جدارِ الذكريات، أُنادي: يا أبي! فتجرحني النداءات من دونكَ.
وحيد أنا أبحث عن دفء يديك فلا أجد!
أبي..
أكتبُ إليكَ وأعلم أن الكلمات لا تُغني عن الدّمع شيئًا، ولكن لا حِيلة لي من بعدكَ غير الدُموع والكلمات